الصوفية… الشعر.. العشق… والنضال..! -٤-

عن السر

قال أبو هريرة : «حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعاءين : أما أحدهما ، فبثثته ، وأما الآخر ، فلو بثثته قطع هذا البلعوم» (أخرجه البخاري)

تخيل أنت…
أبو هريرة.. الصحابي الجليل.. يخشى من قتل المسلمين له إن هو روى كلاما عن النبي…؟؟!!
لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون ذلك “الوعاء” الذي كتمه من الشريعة.. فلو كان كذلك لكان كتمه حراما بالقطع.. فهو إذن علم آخر أعطاه النبي للخاصة..
وكان عبد الله بن العباس يقول في قوله عز وجلّ ” الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهنّ يتنزل الأمر بينهن” : لو ذكرت تفسيره لرجمتموني. وفي رواية: لقلتم إني كافر…
هناك إذن ما يجب إخفاؤه وعدم كشفه للعامة.. فكل محاولات كشفه غالبا ما انتهت نهايات مأساوية..
وهو ليس من الشريعة كما قلنا…
*****
وصل- عن السر..

هذا الجزء تحديدا هو أقرب الأجزاء إلى موضوعنا الأصلي (الذي بات بعيدا جدا فيما يبدو) وهو الشعر الصوفي..
فهو متعلق بأكبر خاصية أسلوبية تملكت هذا الشعر.. ونعني بها الرمز.. بل إنهم أول من فتح طريق الأدب الرمزي في الأدب العربي..

دقت معاني الحب عن أفهامهم

فتـــأولـــوهـــا أقــبــح التــأويل..!

هل يكون ابن الخطيب محقا…؟
لنر ذلك..
*****

لا يصح أن نفهم أقوال الصوفية وأشعارها على ظاهر لفظها.. فمن يفعل هذا يخطئ مرتين:
1- لأنه فهم أقوالهم على غير مرادهم.. وحمل المجاز على الحقيقة.. فصار كمن أدرك قولهم”فلان أسد” على أن فلانا هذا أسد حقيقي يزأر ويفترس…!
ويصير هذا الخطأ مركبا إذا ما أسس عليه أحكاما بكفر أو زندقة شخص ما كما حدث مع السهروردي والحلاج وغيرهم.. في عصر كانت فيه الزندقة تهمة لا صلة لها بالكفر بل بما نعرفه الآن بتهمة قلب نظام الحكم.. والأئمة لعبة في أيدي الحكام إلا من عصم الله…
فعاقبوهم على أقول ظاهرها الكفر وحقيقتها لا تخالف الشريعة أبدا..
2- ولأنه خالف المنهج العلمي في البحث – إن كان قد سمع عنه أصلا – والذي يقضي بأنه: عند دراسة علم أو فن ما لابد أن تدرس مصطلحات هذا لعلم جيدا بحسب المعاني التي يقررها أصحاب ذلك العلم لتلك المصطلحات..
وهذا المبدأ لم يستحدث مع نشأة علم الذرة مثلا.. بل هو قديم جدا..
هو مبدأ “لغة أهل الحرفة” كما تقول الدكتورةحسنه عبد السميع أو التوقيف على الاصطلاح كما يقول ابن عربي
“..ما من طائفة تحمل علماً من المنطقيين والنحاة وأهل الهندسة والحساب والتعليم والمتكلمين والفلاسفة إلا ولهم اصطلاح لا يعلمه الدخيل فيهم إلا بتوقيف من الشيخ أو من أهله.. لابد من ذلك..”
فعلا.. لا بد من ذلك..
فلا يصح حمل مصطلحات الصوفية على غير المعنى الذي قرروه لها.. فقد روي عن كل واحد منهم تقريبا مرة أو أكثر إنه لا يقصد ظاهر اللفظ… فحملوا أنفسهم تبعة غبائنا نحن…!
كل ما أذكره مما جرى

ذكره، أو مثله إن تفهما

منه أنوار وأسرار جلت

أو علت، جاء بها رب السما

لفؤادي.. أو فؤاد من له

مثل حالي.. من شروط العُلَمَا

صفة قدسية علوية

أعلمت أن لصدقي قدما..؟

فاصرف الخاطر عن ظاهره

واطلب الباطن حتى تعلما..!

كله كذلك.. وإن كان غزلا حسيا أو حبا جسديا أو أسماء لنساء أو خمرا وشراب أو حتى غلاميات..

الرمز.. والسر…!
لماذا يستعمل الصوفية الرمز أصلا…؟
ولماذا لا يؤثرون المباشرة..؟
يجيبك السهروردي الذي قتل بالتهمة التي يحذر منها…! ولا عجب فهي كانت تهمة موجهة للعقول الحرة أكثر منها للعقول الكافرة..!!:

أهل الهوى قسمان: قسم منهمو

كتموا وقسم بالمحبة باحوا

فالبائحون بسرهم شربوا الهوى

صرفا، فهزمهم الغرام فباحوا

والكاتمون لسرهم شربوا الهوى

ممزوجة فحمتهم الأقداح

بالسر إن باحوا تباح دماؤهم

وكذا دماء البائحين تباح

وإذا هم كتموا تحدث عنهم

عند الوشاة المدمع السفاح

وبدت شواهد للسقام عليهم

فيها لمشكل أمرهم أيضاح

وهذه مقدمة فقط.. فقد أكثر الصوفية إلى حد غير عادي من ذكر “السر” وأهميته وأهمية حفظه…
من لم يصن سر مولاه وسيده

لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا

وعاقبوه على ما كان من زلل

وأبدلوه مكان الأنس إيحاشا…!

يا إلهي..
وأبدلوه مكان الأنس إيحاشا.. يا له من عقاب..
وقاكم الله شر الوحشة بعد بلوغ الأنس..

وقال علي بن الحسين بن على هذين البيتين (أو تمثل بهما)
يا رب جوهر علم لو أبوح به

لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا

ولاستحل رجال مسلمون دمي

يرون أقبح ما يأتونه حسنا..!

وقال فيهما ابن عربي:
(فنبه بقوله يعبد الوثنا على مقصوده ينظر إليه تأويل قوله صلى الله عليه وسلم إن الله خلق آدم على صورته بإعادة الضمير على الله تعالى..
وهو من بعض محتملاته، بالله يا أخي انصفني فيما أقوله لك..!
لا شك إنك قد أجمعت معي على أنه: ” كل ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأخبار في كل ما وصف به فيها ربه تعالى من الفرح والضحك والتعجب والتبشبش والغضب والتردد والكراهة والمحبة والشوق إن ذلك وأمثاله يجب الإيمان به والتصديق..”
فلو هبت نفحات من هذه الحضرة الإلهية كشفاً وتجلياً وتعريفاً إلهياً على قلوب الأولياء بحيث أن يعلموا بإعلام الله وشاهدوا بإشهاد الله من هذه الأمور المعبر عنها بهذه الألفاظ على لسان الرسول – وقد وقع الإيمان مني ومنك بهذا كله – إذا أتى بمثله هذا الوليّ في حق الله تعالى ألست تزندقه كما قال الجنيد..؟!
ألست تقول: “إن هذا مشبه..!”
“هذا عابد وثن..!”
“..كيف وصف الحق بما وصف به المخلوق..؟!”
“ما فعلت عبدة الأوثان أكثر من هذا..!” – كما قال علي بن الحسين(يعني في البيتين السابقين) – ألست كنت تقتله أو تفتي بقتله – كما قال ابن عباس -..؟!
فبأيّ شيء آمنت وسلمت لما سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق الله من الأمور التي تحيلها الأدلة العقلية، ومنعت من تأويلها – والأشعري تأولها على وجوه من التنزيه في زعمه – فأين الإنصاف..؟
فهلا قلت: ” القدرة واسعة أن تعطي لهذا الوليّ ما أعطت للنبيّ من علوم الأسرار..” فإن ذلك ليس من خصائص النبوّة ولا حجر الشارع على أمّته هذا الباب ولا تكلم فيه بشيء…”)

لا تغب عن نظري صديقي القارئ..!
فواضح إننا كلما أوغلنا في ذلك.. كلما تبينت لنا ضخامة السر..

قال ابن عربي: ” وهذا الفن من الكشف والعلم يجب ستره عن أكثر الخلق لما فيه من العلو فغوره بعيد والدلف إليه قريب…”
وكان الحسن البصري إذا تكلم في مثل هذه الأسرار – التي لا ينبغي لمن ليس من طريقها أن يقف عليها ويعرفها – جمع خاصته وأغلق بابه دون الناس..

فواضح أن هذا العلم اللدني أو السر يحتاج إلى ٍSystem requirements – متطلبات نظام – شبيهة بتلك التي عند الكمبيوتر.. هي تعتمد على “الذوق” الذي لا يتوافر عند أغلب الناس ممن يوقفون عقولهم على قشور الكلام دون معانيه.. تعتمد على التأمل.. تعتمد على إيمان القلب لا إيمان شهادة الميلاد.. تعتمد على حسن الظن بالله وبالناس…

لكن السر كما هو معروف قنبلة في الصدر توشك أن تزهق روح صاحبها وإن لم تنفجر…
لهذا لجأ الصوفية إلى “الرمز” في كشفهم الإيحائي عن السر…
وقد يلتبس الأمر على من لا يعرف الصوفية، كما حدث مع بعض المستشرقين عندما ظنوا أن “ابن الفارض” عندما استعمل ضمير المذكر في إحدى غزلياته أنه قد عشق غلاما..! وكذلك حافظ الشيرازي.. لأنهم لم يعرفوا غالبا أن العرب قد عرفوا هذا النوع من الفن الرمزي…
الكنايات.. والاستعارات.. يكنون بعشق هند والمراد سوى هند.. لا عيب ولا حرام..! لا يشبهون الله بالمرأة بل حبه بحبها.. وما حبها بقطرة في محيط حبه لو يعلمون..
ونمثل لهذا عند حديثنا – فيما بعد – عن نماذج الشعر الصوفي..

أضف تعليق